فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لشديد}
استئنافٌ خُوطبَ بهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إيذاناً بأنَّ لكفارِ قومِهِ نصيباً موفُوراً منْ مضمونِه كما ينبئ عنْهُ التعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ معَ الإضافةِ إلى ضميره عليهِ الصلاةُ والسلامُ والبطشُ الأخذُ بعُنْفٍ وحيثُ وصفَ بالشدةِ فقدْ تضاعفَ وتفاقمَ وهو بطشُه بالجبابرةِ والظلمةَ وَأخذُه إيَّاهُم بالعذاب والانتقامِ كقوله تعالى: {وكذلك أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِىَ ظالمة إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} {إِنَّهُ هُوَ يبدئ ويعيد} أيْ هُو يبدئ الخلق وَهُوَ يعيدُه مِنْ دَخْلٍ لأحد في شيءٍ منْهُمَا ففيهِ مزيدُ تقريرٍ لشدةِ بطشِه أوُ هُو يبدئ البطشَ بالكفرةِ في الدنيا ويعيده فِي الآخرةِ {وَهُوَ الغفور} لمن تاب وآمنَ {الودود} المحبُّ لمَنْ أطاعَ.
{ذُو العرش} خالقُه وقيلَ: المرادُ بالعرش الملكُ أيْ ذُو السلطنةِ القاهرةِ وقرئ {ذي العرش} على أنَّهُ صفةُ {ربِّك} {المجيد} العظيمُ في ذاتِه وصفاتِه فإنَّهُ واجبُ الوجودِ تامُّ القدرةِ كاملُ الحكمةِ وقرئ بالجرِّ على أنه صفةٌ لـ: {ربِّكَ} أَوْ لـ: {العرش} ومجدُه علوّه وعظمتُه {فَعَّالٌ لما يريد} بحيثُ لا يتخلفُ عنْ إرادتِه مرادٌ من أفعالِه تعالى وأفعالِ غيرِه وهو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ.
وقوله تعالى: {هَلُ أَتَاكَ حديث الجنود}
استئنافٌ مقررٌ لشدةِ بطشِه تعالى بالظلمةِ العُصاةِ والكفرةِ العتاةِ وكونُه فعالاً لما يريد متضمنٌ لتسليتِه عليه الصلاةُ والسلامُ بالإشعارِ بأنهُ سيصيبُ قومَهُ ما أصابَ الجنود {فِرْعَوْنَ وثمود} بدل من {الجنود} لأنَّ المرادَ بفرعونَ هُوَ وقومُه والمرادُ بحديثهم ما صدرَ عنهُم من التمادِي في الكفرِ والضلالِ وما حلَّ بهمْ منَ العذاب والنكال وَالمَعْنى قدْ أتاكَ حديثهم وعرفتَ ما فعلُوا وما فُعِلَ بهمْ فذكر قومكَ بشؤونِ الله تعالى وأندّرْهُم أنْ يصيبَهُم مثل ما أصاب أمثالهم. وقوله تعالى: {بَلِ الذين كَفَرُواْ في تكذيب} إضراب عن مماثلتِهم لهُم وبيانٌ لكونِهم أشدَّ منُهم في الكفرِ والطغيانِ كأنَّه قيلَ: ليسُوا مثلُهم فِي ذلكَ بلْ أشدُّ منهمُ في استحقاقِ العذاب واستيجابِ العقابِ فإنَّهم مستقرونَ في تكذيب شديدٍ للقرآن الكريمِ أو قيلَ ليستْ جنايتُهم مجردَ عدمِ التذكرِ والاتعاظِ مما سمعُوا منْ حديثهم بلْ هُم معَ ذلكَ في تكذيب شديدٍ للقرآن الناطقِ بذلكَ لكنْ لا أنَّهم يكذبونَ بوقوعِ الحادثةِ بلْ بكونِ ما نطقَ بهِ قرآناً منْ عندِ الله تعالى معَ وضوحِ أمرِه وظهورِ حالِه بالبيناتِ الباهرةِ {والله مِن وَرَائِهِمْ محيط} تمثيلٌ لعدمِ نجاتِهم منْ بأسِ الله تعالى بعدمِ فوتِ المحاطِ المحيط وقوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مجيد} ردٌّ لكفرهم وإبطالٌ لتكذبيهم وتحقيقٌ للحقِّ أيْ ليسَ الأمرُ كَما قالوا بلْ هُو كتاب شريف عالِي الطبقةِ فَيما بينَ الكتبِ الإلهيةِ في النظمِ والمَعْنى وقرئ {قرآن مجيد} بالإضافةِ أيْ قرآن ربَ مجيد {فِى لَوْحٍ محفوظ} أيْ منَ التحريفِ ووصولِ الشيطاطينِ إليهِ وقرئ {محفوظ} بالرفعِ على أنه صفةُ {قرآن}. وقرئ {في لوحٍ} وَهُوَ الهَوَاءُ أي ما فوقَ السماء السابعةِ الذي فيهِ اللوحُ. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لشديد}
استئناف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم إيذاناً بأن لكفار قومه نصيباً موفوراً من مضمونه كما ينبئ عنه التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام والبطش الأخذ بصولة وعنف وحيث وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم وهو بطشه عز وجل بالجبابرة والظلمة وأخذه سبحانه إياهم بالعذاب والانتقام.
{إِنَّهُ هُوَ يبدئ ويعيد} أي أنه عز وجل هو يبدئ الخلق بالإنشاء وهو سبحانه يعيده بالحشر يوم القيامة كما قال ابن زيد والضحاك أو يبدئ كل ما يبدأ ويعيد كل ما يعاد كما قال ابن عباس من غير دخل لأحد في شيء منهما ومن كان كذلك كان بطشه في غاية الشدة أو يبدئ البطش بالكفرة في الدنيا ثم يعيده في الآخرة وعلى الوجهين الجملة في موضع التعليل لما سبق ووجهه على الثاني ظاهر وعلى الأول قد أشرنا إليه وقيل وجهه عليه إن الإعادة للمجازاة فهي متضمنة للبطش وليس بذاك وعن ابن عباس يبدئ العذاب الكفار ويعيده عليهم فتأكلهم النار حتى يصيروا فحما ثم يعيدهم عز وجل خلقاً جديداً وفيه خفاء وإن كان أمر الجملة عليه في غاية الظهور واستعمال {يبدئ} مع {يعيد} حسن وإن لم يسمع أبدأ كما بين في محله وحكى أبو زكيد أنه قرئ {يبدأ} من بدأ ثلاثياً وهو المسموع لكن القراءة بذلك شاذة.
{وَهُوَ الغفور} لمن يشاء من المؤمنين وقيل لمن تاب وآمن والتخصيص عند من يرى رأي أهل السنة إما لمناسبة مقام الإنذار أو لما في صيغة الغفور من المبالغة فأصل المغفرة لا يتوقف على التوبة وزيادتها بما لا يعلمه إلا الله تعالى للتائبين {الودود} المحب كثيراً لمن أطاع ففعول صيغة مبالغة في الواد اسم فاعل ومحبة الله تعالى ومودته عند الخلف بانعامه سبحانه وإكرامه جل شأنه ومن هنا فسر {الودود} بكثير الإحسان وعن ابن عباس أي المتودد إلى عباده تعالى شأنه بالمغفرة وقيل هو فعول بمعنى مفعول كركوب وحلوب أي يوده ويحبه سبحانه عباده الصالحون وهو خلاف الظاهر وحكى المبرد عن القاضي إسمعيل بن إسحاق أن {الودود} هو الذي لا ولد له وأنشد قوله:
ي الروع عريانة ** ذلول الجماح لقاحاً ودوداً

أي لا ولد لها تحن إليه وحمله مع الغفور على هذا المعنى غير مناسب كما لا يخفى.
{ذُو العرش} أي صاحبه والمراد مالكه أو خالقه وهو أعظم المخلوقات وعن علي كرم الله تعالى وجهه لو جمعت مياه الدنيا ومسح بها سطح العرش الذي يلينا لما استوعب منه إلا قليل وجاء في الأخبار من عطمه ما يبهر العقول وقال القفال ذو العرش ذو الملك والسلطان كأنه جعل العرش بمعنى الملك بطريق الكناية والتجوز وجوز أن يبقى العرش على حقيقته ويراد بذي العرش الملك لأن ذا العرش لا يكون إلا ملكاً وقرأ ابن عامر في رواية {ذي العرش} بالياء على أنه صفة لـ: {ربك} وحينئذ يكون قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ} [البروج: 13] إلخ جملة معترضة لا يضر الفصل بها بين الصفة والموصوف وكذا لا يضر الفصل بينهما بخبر المبتدأ لأنه ليس بأجنبي فإن الموصوف هنا من تتمة المبتدأ وقد قال ابن مالك في التسهيل يجوز الفصل بين التابع والمتبوع بما لا يتمحض مباينته نعم قال ابن الحاجب الفصل بين الصفة والموصوفة بخبر المبتدأ شاذ كما في قوله:
وكل أخ مفارقه أخوه ** لعمر أبيك إلا الفر قدان

{الْمجيد} العظيم في ذاته عز وجل وصفاته سبحانه فإنه تعالى شأنه واجب الوجود تام القدرة كامل الحكمة وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن وثاب والأعمش والمفضل عن عاصم والأخوان {المجيد} بالجر صفة للعرش ومجده علوه وعظمته وحسن صورته وتركيبه فإنه قيل العرش أحسن الأجسام صورة وتركيباً وليس من مجده كون الحوادث الكونية بتوسط أوضاعه كما يزعمه المنجمون فإن ذلك باطل شرعاً وعقلاً على ما تقتضيه أصولهم وجاز على قراءة {ذي العرش} بالياء أن يكون صفة لذي وجوز كونه صفة لـ: {ربك} وليس بذاك لأن الأصل عدم الفصل بين التابع والمتبوع فلا يقال به ما لم يتعين.
{فَعَّالٌ لما يريد} بحيث لا يتخلف عن إرادته تعالى من أفعاله سبحانه وأفعال غيره عز وجل فما للعموم وفي التنكير من التفخيم ما لا يخفى وفهي رد ظاهر على المعتزلة في قولهم أنه سبحانه وتعالى يريد إيمان الكافر وطاعة العاصي ويتخلفان عن إرادته سبحانه والمرفوعات كلها على ما استحسنه أبو حيان أخبار لهو في قوله تعالى: {هُوَ الغفور} [البروج: 14] وجوز أن يكون {الودود} و{ذو العرش} و{المجيد} صفات لـ: {الغفور} ومن لم يجوز تعدد الخبر لمبتدأ وأحد يقول بذلك أو بتقدير مبتدآت للمذكورات وأطلق الزمخشري القول بأن {فعال} خبر لمبتدأ محذوف أي فعال فقال (صاحب الكشف) إنما لم يحمله على أنه خبر السابق أعني هو في قوله تعالى: {هُوَ الغفور} لأن قوله سبحانه: {فَعَّالٌ لما يريد} تحقيق للصفتين البطش بالأعداء والغفر والود للأولياء ولو حمل عليه لفاتت هذه النكتة اهـ. وهو تدقيق لطيف.
وقوله تعالى: {هَلُ أَتَاكَ حديث الجنود} استئناف فيه تقرير لكونه تعالى فعالاً لما يريد وكذا لشدة بطشه سبحانه بالظلمة العصاة والكفرة العتاة وتسلية له صلى الله عليه وسلم بالإشعار بأنه سيصيب كفرة قومه ما أصاب الجنود وهو جمع جند يقال للعسكر اعتباراً بالغلظة من الجند أي الأرض الغليظة وكذا للأعوان ويقال لصنف من الخلق على حدة وكذا لكل مجتمع والمراد بـ: {الجنود} هاهنا الجماعات الذين تجندوا على أنبياء الله تعالى عليهم السلام واجتمعوا على ذريتهم.
{فِرْعَوْنَ وثمود} بدل من {الجنود} بدل كل من كل على حذف مضاف أي جنود فرعون أو على أن يراد بفرعون هو وقومه واكتفى بذكره عنهم لأنهم أتباعه وقيل البدل هو المجموع لا كل من المتعاطفين وهو خلاف الظاهر.
وقال السمين يجوز كونه منصوباً بأعني لأنه لما لم يطابق ما قبله وجب قطعه وتعقب بأنه تفسير للجنود حينئذٍ فيعود الإشكال وأجيب بأن المفسر حينئذٍ المجموع وليس اعتباره مع أعني كاعتباره مع الإبدال والمراد بحديثهم ما صدر عنهم من التمادي في الكفر والضلال وما حل بهم من العذاب والنكال والمعنى قد أتاك حديثهم وعرفت ما فعلوا وما فعل بهم فذكر قومك بأيام الله تعالى وشؤونه سبحانه وأنذرهم أن يصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم.
وقوله تعالى: {بَلِ الذين كَفَرُواْ} أي من قومك {فِى تَكْذيبٍ} إضراب انتقالي عن مماثلتهم لهم وبيان لكونهم أشد منهم في الكفر والطغيان كما ينبئ عنه العدول عن يكذبون إلى {في تكذيب} المفيد لإحاطة التكذيب بهم إحاطة الظرف بمظروفه أو البحر بالغريق فيه مع ما في تنكيره من الدلالة على تعظيمه وتهويله فكأنه قيل ليسوا مثلهم بل هم أشد منهم فإنهم غرقى مغمورون في تكذيب عظيم للقرآن الكريم فهم أولى منهم في استحقاق العذاب أو كأنه قيل ليست جنايتهم مجرد عدم التذكر والاتعاظ بما سمعوا من حديثهم بل هم مع ذلك في تكذيب عظيم للقرآن الناطق بذلك وكونه قرآناً من عند الله تعالى مع وضوح أمره وظهور حاله بالبينات الباهرة وقوله تعالى: {والله مِن وَرَائِهِمْ محيط} جوز أن يكون اعتراضاً تذييلياً وأن يكون حالاً من الضمير في الجار والمجرور السابق والكلام تمثيل لعدم نجاتهم من بأس الله تعالى بعدم فوت المحاط المحيط كما قال غير وأحد وكان المعنى أنه عز وجل عالم بهم وقادر عليهم وهم لا يعجزونه ولا يفوتونه سبحانه وتعالى وذكر عصام الدين أن في ذلك تعريضاً وتوبيخاً للكفار بأنهم نبذوا الله سبحانه وراء ظهورهم وأقبلوا على الهوى والشهوات بكليتهم ولعل ذلك من العدول عن بهم إلى من ورائهم.
وقوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مجيد} رد لكفرهم وإبطال لتكذيبهم وتحقيق للحق أي بل هو كتاب شريف عالي الطبقة فيما بين الكتب الإلهية في النظم والمعنى لا يحق تكذيبه والكفر به وقيل إضراب وانتقال عن الأخبار بشدة تكذيبهم وعدم ارعوائهم عنه إلى وصف القرآن للإشارة إلى أنه لا ريب فيه ولا يضره تكذيب هؤلاء والأول أولى وزعم بعضهم أن إضراب الأول عن قصة فرعون وثمود إلى جميع الكفار والمعنى عليه أن جميع الكفار في تكذيب ولم يكن نبي فارغاً عن تكذيبهم والله تعالى لا يهمل أمرهم وفيه من تسليته صلى الله عليه وسلم ما فيه ويبعده إرداف ذلك بهذا الإضراب وقرأ ابن السميفع {قرآن مجيد} بالإضافة قال ابن خالويه سمعت ابن الأنباري يقول معناه بل هو قرآن رب مجيد كما قال الشاعر:
ولكن الغني رب غفور

أي غني رب غفور وقال ابن عطية قرأ اليماني بالإضافة على أن يكون المجيد هو الله تعالى وهو محتمل للتقدير وعدمه وجوز أن يكون من إضافة الموصوف لصفته قال أبو حيان وهذا أولى لتوافق القراءتين.
{فِى لَوْحٍ} أي كائن في لوح {محفوظ} أي ذلك اللوح من وصول الشياطين إليه وهذا هو اللوح المحفوظ المشهور وهو على ما روي عن ابن عباس والعهدة على الراوي لوح من درة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق والمغرب وحافتاه الدر والياقوت ودفتاه ياقوتة حمراء وقلمه نور وهو معقود بالعرش وأصله في حجر ملك يقال له ساطريون لله عز وجل فيه في كل يوم ثلثمائة وستون لحظة يحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء وأنه كتب في صدره لا إله إلا الله وحده لا شريك له دينه الإسلام ومحمد عبده ورسوله فمن آمن بالله عز وجل وصدق بوعده واتبع رسله أدخله الجنة وقال مقاتل إن اللوح المحفوظ عن يمين العرش وجاء فيه أخبار غير ذلك ونحن نؤمن به ولا يلزمنا البحث عن ماهيته وكيفية كتابته ونحو ذلك نعم نقول إن ما يزعمه بعض الناس من أنه جوهر مجرد ليس في حيز وأنه كالمرأة للصور العلمية مخالف لظواهر الشريعة وليس له مستند من كتاب ولا سنة أصلاً وقرأ ابن يعمر وابن السميفع {لوح} بضم اللام وأصله في اللغة الهواء والمراد به هنا مجازاً ما فوق السماء السابعة وقرأ الأعرج وزيد بن علي وابن محيصن ونافع بخلاف عنه {محفوظ} بالرفع على أنه صفة لـ: {قرآن} وفي {لوح} قيل متعلق به وقيل صفة أخرى لـ: {قرآن} وتعقب بأن فيه تقديم الصفة المركبة على المفردة وهو خلاف الأصل والمعنى عليه قيل محفوظ بعد التنزيل من التغيير والتبديل والزيادة والنقص كما قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} [الحجر: 9] وقيل محفوظ في ذلك اللوح عن وصول الشياطين إليه والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لشديد (12)}
جملة: {إن بطش ربك لشديد} علة لمضمون قوله: {إن الذين فتنوا المؤمنين} إلى قوله: {ولهم عذاب الحريق} [البروج: 10]، أي لأن بطش الله شديد على الذين فتنوا الذين آمنوا به.
فموقع {إنَّ} في التعليل يغني عن فاء التسبب.
وبطش الله يشمل تعذيبه إياهم في جهنم ويشمل ما قبله مما يقع في الآخرة وما يقع في الدنيا قال تعالى: {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون} [الدخان: 16] ووجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لأن بطش الله بالذين فتنوا المؤمنين فيه نصر للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت له.
{إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ ويعيد (13)}
تصلح لأن تكون استئنافاً ابتدائياً انتُقل به من وعيدهم بعذاب الآخرة إلى توعدهم بعذاب في الدنيا يكون من بطش الله، أردف به وعيد عذاب الآخرة لأنه أوقع في قلوب المشركين إذ هم يحسبون أنهم في أمن من العقاب إذ هم لا يصدقون بالبعث فحسبوا أنهم فازوا بطيب الحياة الدنيا.
والمعنى: أن الله يبطش بهم في البَدْء والعَوْد، أي في الدنيا والآخرة.
وتَصلح لأن تكون تعليلاً لجملة: {إن بطش ربك لشديد} [البروج: 12] لأن الذي يبدئ ويعيد قادر على إيقاع البطش الشديد في الدنيا وهو الإِبداء، وفي الآخرة وهو إعادة البطش.
وتصلح لأن تكون إدماجاً للاستدلال على إمكان البعث أي أن الله يبدئ الخلق ثم يعيده فيكون كقوله تعالى: {وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} [الروم: 27].
والبطش: الأخذ بعنف وشدة ويستعار للعقاب المؤلم الشديد كما هنا.
و{يبدئ}: مرادف يَبْدَأ، يقال: بَدَأ وأبْدَأ. فليست همزة أبدأ للتعدية.
وحُذف مفعولا الفعلين لقصد عموم تعلق الفعلين بكل ما يقع ابتداءً، ويعادُ بعد ذلك فشمل بَدأ الخلق وإعادتَه وهو البعث، وشمَل البطشَ الأول في الدنيا والبطش في الآخرة، وشمل إيجاد الأجيال وأخلافها بعد هلاك أوائلها. وفي هذه الاعتبارات من التهديد للمشركين محامل كثيرة.
وضمير الفصل في قوله: {هو يبدئ} للتقوِّي، أي لتحقيق الخبر ولا موقع للقصر هنا.
إذ ليس في المقام ردّ على من يدّعي أن غير الله يبدئ ويعيد.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {أولئك هم المفلحون} في سورة البقرة (5) أن ضمير الفصل يليه الفعل المضارع على قول المازني، وهو التحقيق.
ودليلُه قوله: {ومكر أولئك هو يبور} وقد تقدم في سورة فاطر (10).
{وَهُوَ الْغَفُورُ الودود (14)}
جملة معطوفة على جملة: {إن بطش ربك لشديد} [البروج: 12].
ومضمونها قسيم لمضمون {إن بطش ربك لشديد} لأنه لما أفيد تعليل مضمون جملة: {إن الذين فتنوا المؤمنين} [البروج: 10] إلى آخره، ناسب أن يقابَل بتعليل مضمون جملة {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات} [البروج: 11] إلى آخره، فعلِّل بقوله: {وهو الغفور الودود}، فهو يغفر للذين تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات ما فَرَط منهم وهو يحب التّوابين ويَوَدُّهم.
و{الودود}: فَعول بمعنى فاعل مشتق من الودّ وهو المحبة فمعنى {الودود}: المحبّ وهو من أسمائه تعالى، أي إنه يحب مخلوقاته ما لم يحيدوا عن وصايته.
والمحبة التي يوصف الله بها مستعملة في لازم المحبة في اللغة تقريباً للمعنى المتعالى عن الكيف وهو من معنى الرحمة، وقد تقدم عند قوله تعالى: {إن ربي رحيم ودود} في آخر سورة هود (90).
ولما ذَكَر الله من صفاته ما تعلُّقه بمخلوقاته بحسب ما يستأهلونه من جزاءٍ أعْقب ذلك بصفاته الذاتية على وجه الاستطراد والتكملة بقوله: {ذو العرش المجيد} تنبيهاً للعباد إلى وجوب عبادته لاستحقاقه العبادة لجلاله كما يعبدونه لاتقاء عقابه ورجاء نواله.
و{العرش}: اسم لعالَم يحيط بجميع السماوات، سمي عرشاً لأنه دال على عظمة الله تعالى كما يدل العرش على أن صاحبه من الملوك.
و{المجيد}: العظيم القويُّ في نوعه، ومن أمثالهم: في كل شجر نارٌ، واستَمْجَد المرْخُ والعَفَار. وهما شجران يكثر قدح النار من زندهما.
وقرأه الجمهور بالرفع على أنه خبر رابع عن ضمير الجلالة.
وقرأه حمزة والكسائي وخَلف بالجر نعتاً لـ: {العرش} فوصف {العرش} بالمجد كناية عن مجد صاحب العرش.
ثم ذيل ذلك بصفة جامعة لعظمته الذاتية وعظمة نعمه بقوله: {فعال لما يريد} أي إذا تعلقت إرادته بفعل، فَعَله على أكمل ما تعلقت به إرادته لا ينقصه شيءٌ ولا يُبطئ به ما أراد تعجيله.
فصيغة المبالغة في قوله: {فعال} للدلالة على الكثرة في الكمية والكيفية.
والإِرادة هنا هي المعرَّفة عندنا بأنها صفة تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه وهي غير الإِرادة بمعنى المحبة مثل {يريد اللَّه بكم اليسر} [البقرة: 185].
{هَلْ أَتَاكَ حديث الجنود (17)}
متصل بقوله: {إن بطش ربك لشديد} [البروج: 12] فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم للاستدلال على كون بطشه تعالى شديداً ببطشَيْنِ بَطَشَهُما بفرعون وثمود بعد أن علل ذلك بقوله: {إنه هو يبدئ ويعيد} [البروج: 13] فذلك تعليل، وهذا تمثيل ودليل.
والاستفهام مستعمل في إرادة لتهويل {حديث الجنود} بأنه يسأل عن علمه، وفيه تعريض للمشركين بأنهم قد يحلّ بهم ما حَلّ بأولئك: {وأنه أهلك عاداً الأولى وثمودا فما أبقى} إلى قوله: {فبأي ءآلاء ربك تتمارى} [النجم: 50 55].
والخطاب لغير معين ممن يراد موعظته من المشركين كناية عن التذكير بخبرهم لأن حال المتلبسين بمثل صنيعهم الراكبين رؤوسهم في العناد، كحال من لا يعلم خبرهم فيُسْأل هل بلغه خبرهم أوْ لا، أو خطاباً لغير معين تعجيباً من حال المشركين في إعراضهم عن الاتعاظ بذلك فيكون الاستفهام مستعملاً في التعجيب.
والإِتيان: مستعار لبلوغ الخبر، والحديث: الخبرُ.
وتقدم في سورة النازعات.
و{الجنود}: جمع جند وهو العسكر المتجمع للقتال.
وأطلق على الأمم التي تجمعت لمقاومة الرسل كقوله تعالى: {جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب} [ص: 11] واستعير الجند للملأ لقوله: {وانطلق الملأ منهم} [ص: 6] ثم رشحت الاستعارة باستعارة مهزوم وهو المغلوب في الحرب فاستعير للمهلك المستأصل من دون حرب.
وأُبدل {فرعونَ وثمود} من {الجنود} بدلاً مطابقاً لأنه أريد العبرة بهؤلاء.
و{فرعون}: اسم لملك مصر من القِبط وقد تقدم عند قوله تعالى: {ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه} في سورة الأعراف (103).
والكلام على حذف مضاف لأن فرعون ليس بجند ولكنه مضاف إليه الجند الذين كذبوا موسى عليه السلام وآذوه.
فحذف المضاف لنكتة المزاوجة بين اسمين علمين مفردين في الإبدال من {الجنود}.
وضُرب المثل بفرعون لأبي جهل وقد كان يلقّب عند المسلمين بفرعون هذه الأمة، وضرب المثل للمشركين بقوم فرعون لأنهم أكبر أمة تألبت على رسول من رسل الله بعثه الله لإعتاق بني إسرائيل من ذل العبودية لفرعون، وناووه لأنه دعا إلى عبادة الرب الحق فغاظ ذلك فرعون الزاعم أنه إله القبط وابن آلهتهم.
وتخصيص ثمودَ بالذكر من بقية الأمم التي كذَّبت الرسل من العرب مثل عاد وقوم تبّع، ومن غيرهم مثل قوم نوح وقوم شعيب.
لما اقتضته الفاصلة السابعة الجارية على حرف الدال من قوله: {إن بطش ربك لشديد} [البروج: 12] فإن ذلك لما استقامت به الفاصلة ولم يكن في ذكره تكلف كان من محاسن نظم الكلام إيثارُه.
وتقدم ذكر ثمود عند قوله تعالى: {وإلى ثمود أخاهم صالحاً} في سورة الأعراف (73).
وهو اسم عربي ولكن يُطلق على القبيلة التي ينتهي نسبها إليه فيمنع من الصرف بتأويل القبيلة كما هنا.
{بَلِ الَّذينَ كَفَرُوا في تكذيب (19)}
إضراب انتقالي إلى إعراضهم عن الاعتبار بحال الأمم الذين كذبوا الرسل وهو أنهم مستمرون على التكذيب منغمسون فيه انغماسَ المظروف في الظرف فجعل تمكن التكذيب من نفوسهم كتمكن الظرف بالمظروف.
وفيه إشارة إلى أن إحاطة التكذيب بهم إحاطة الظرف بالمظروف لا يترك لتذكر ما حل بأمثالهم من الأمم مسلكاً لعقولهم ولهذا لم يقل بل الذين كفروا يكذبون كما قال في سورة الانشقاق.
وحُذف متعلق التكذيب لظهوره من المقام إذ التقدير: أنهم في تكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالوحي المُنْزل إليه وبالبعث.
وجملة: {والله من ورائهم محيط} عطف على جملة: {الذين كفروا في تكذيب}، أي هم متمكنون من التكذيب والله يسلط عليهم عقاباً لا يفلتون منه.
فقوله: {والله من ورائهم محيط} تمثيل لحال انتظار العذاب إياهم وهم في غفلة عنه بحال من أحاط به العدوّ من ورائه وهو لا يعلم حتى إذا رام الفرار والإِفلات وجد العدوّ محيطاً به، وليس المراد هنا إحاطة علمه تعالى بتكذيبهم إذ ليس له كبير جَدوى.
وقد قُوبل جزاء إحاطة التكذيب بهم بإحاطة العذاب بهم جزاء وفاقاً فقوله: {والله من ورائهم محيط} خبر مستعمل في الوعيد والتهديد.
{بَلْ هُوَ قرآن مجيد (21)}
إضرابُ إبطالٍ لتكذيبهم لأن القرآن جاءهم بدلائل بيِّنة فاستمرارهم على التكذيب ناشئ عن سوء اعتقادهم صدقَ القرآن إذ وصفوه بصفات النقص من قولهم: أساطير الأولين، إفْك مفترىً، قول كاهن، قول شاعر، فكان التنويه به جامعاً لإِبطال جميع ترهاتهم على طريقة الإِيجاز.
و{قرآن}: مصدر قرأ على وزن فُعلان الدال على كثرة المعنى مثل الشكران والقربان.
وهو من القراءة وهي تلاوة كلام صدر في زمن سابق لوقت تلاوة تاليه بمثل ما تكلم به متكلمه سواء كان مكتوباً في صحيفة أم كان ملقَّناً لتاليه بحيث لا يخالف أصله ولو كان أصله كلام تاليه ولذلك لا يقال لنقل كلام أنه قراءة إلا إذا كان كلاماً مكتوباً أو محفوظاً.
وكلما جاء {قرآن} منكراً فهو مصدر وأما اسم كتاب الإِسلام فهو بالتعريف باللام لأنه عَلَم بالغلبة.
فالإِخبار عن الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم باسم قرآن إشارة عرفية إلى أنه موحى به تعريض بإبطال ما اختلقه المكذبون: أنه أساطير الأولين أو قول كاهن أو نحو ذلك.
ووُصف {قرآن} صفة أخرى بأنه مُودع في لوح.
واللوح: قطعة من خشب مستوية تتخذ ليُكتب فيها.
وسَوْق وصف {في لوح} مساق التنويه بالقرآن وباللوح، يعين أن اللوح كائن قُدُسي من كائنات العالم العلوي المغيَّبات، وليس في الآية أكثر من أن اللوح أودع فيه القرآن، فجعل الله القرآن مكتوباً في لوح علويّ كما جعَل التوراة مكتوبة في ألواح وأعطاها موسى عليه السلام فقال: {وكتبنا له في الألواح من كل شيء} [الأعراف: 145] وقال: {وألقى الألواح} [الأعراف: 150] وقال: {ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح} [الأعراف: 154]، وأما لوح القرآن فجعله محفوظاً في العالم العلوي.
وبعض علماء الكلام فسّروا اللَّوح بموجود سجلت فيه جميع المخلوقات مجتمعة ومجملة، وسموا ذلك بالكتاب المبين، وسموا تسجيل المخلوقات فيه بالقضاء، وسموا ظهورها في الوجود بالقدر، وعلى ذلك درج الأصفهاني في (شرحه على الطوالع) حسبما نقله المنجور في (شرح نظم ابن زكري) مسوقاً في قسم العقائد السمعية وفيه نظر.
وورد في آثار مختلفةِ القوة أنه موكل به إسرافيل وأنه كائن عن يمين العرش.
واقتضت هذه الآية أن القرآن كله مسجل فيه.
وجاء في آية سورة الواقعة: {إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون} [الواقعة: 77، 78] وهو ظاهر في أن اللوح المحفوظ، والكتاب المكنون شيء وأحد.
وأما المحفوظ والمكنون فبينهما تغاير في المفهوم وعموم وخصوص وجهيّ في الوقوع، فالمحفوظ: المصون عن كل ما يثلمه وينقصه ولا يليق به وذلك كمال له.
والمكنون: الذي لا يباح تناوله لكل أحد وذلك للخشية عليه لنفاسته ولم يثبت حديث صحيح في ذكر اللوح ولا في خصائصه وكل ما هنالك أقوال معزوّة لبعض السلف لا تعرف أسانيد عَزوها.
وورد أن القلم أول ما خلق الله فقال له: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى الأبد، رواه الترمذي من حديث عبادة بن الصامت وقال الترمذي: حسن غريب، وفيه عن ابن عباس اهـ.
وخلق القلم لا يدل على خلق اللوح لأن القلم يكتب في اللوح وفي غيره.
و{المجيد}: العظيم في نوعه كما تقدم في قوله: {ذو العرش المجيد} [البروج: 15] ومجد القرآن لأنه أعظم الكتب السماوية وأكثرها معاني وهدياً ووعظاً، ويزيد عليها ببلاغته وفصاحته وإعجازه البشر عن معارضته.
ووقع في (التعريفات) للسيد الجرجاني: أن الألواح أربعة:
أولها: لَوح القضاء السابق على المحو والإثبات وهو لوح العقل الأول.
الثاني: لوح القدر أي النفس الناطقة الكلية وهو المسمى اللوح المحفوظ.
الثالث: لوح النفس الجزئية السماوية التي ينتقش فيها كل ما في هذا العالم بشكله وهيئته ومقداره وهو المسمى بالسماء الدنيا.
الرابع: لَوح الهيولى القابل للصورة في عالم الشهادة.اهـ.
وهذا اصطلاح مخلوط بين التصوف والفلسفة.
ولعله مما استقرأه السيّد من كلام عدة علماء.
وقرأ الجمهور: {محفوظ} بالجر على أنه صفة {لوح}.
وحفظ اللوح الذي فيه القرآن كناية عن حفظ القرآن.
وقرأه نافع وحده برفع {محفوظ} على أنه صفة ثآنية لقرآن ويتعلق قوله: {في لوح} بـ: {محفوظ}.
وحفظ القرآن يستلزم أن اللوح المودع هو فيه محفوظ أيضًا، فلا جرم حصل من القراءتين ثبوت الحفظ للقرآن وللوح.
فأما حفظ القرآن فهو حفظه من التغيير ومن تلقف الشياطين قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9].
وأما حفظ اللوح فهو حفظه عن تناول غير الملائكة إياهـ.
أو حفظه كناية عن تقديسه كقوله تعالى: {في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون} [الواقعة: 78، 79]. اهـ.